السلام عليكم .
الجزء الرابع مع ذكرى الشيخ الغزالى .
طاقاتنا المعطلة
وهب الغزالي حياته كلها للدعوة منقطعًا إليها في حماسة وتفانٍ، ولذلك كان أشد ما يحزّ في نفسه التراخي في تبليغ دعوة الله والعمل للإسلام. فكان يتأمل في أعداد المسلمين التي تزيد يومًا عن يوم زيادات محسوسة، ولكن هذه الزيادة لا يفرح بها صديق ولا يخاف منها عدو!! ولا يظهر لها نتاج حضاري في بر أو بحر، كأن الشرع لم يكلفهم بعمل.
إنه يعتبر الأمة التي انتمت إلى هذا الدين أمة فاقدة للوعي، عوجاء الخطا، تحسب أنها حية، لكنها مغمى عليها. تعيش بضمير معتل، ولا تحمل همًّا لدين ولا دعوة.
يقول رحمه الله: "إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الإجازات العلمية، وقد يعين في أعلى المناصب بأوروبا أو أمريكا، لكن صلته بدينه صفر وعلاقته بجنسه هواء!! على حين يكون زميله اليهودي كالإعصار في خدمة الصهيونية وزميله النصراني أسرع من البرق في خدمة الاستعمار! فهل هذا المسلم البارد الشعور يجدي على أمته شيئًا؟ إنه كالجندي المرتزق بسلاحه يخدم أي مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته" .(10)
إن الأمر كما يراه الغزالي لا يحتاج إلى استيراد طاقات من الخارج، بل إلى استحياء الملكات الخامدة في النفوس على أن يتوفر أمران أساسيان:
1- الصدق: "إننا عندما نصدق نخترع مالا يخطر على بال، ونقتحم آفاقًا ما عرفها الأولون، ونكسب معارك كثرت فيها هزائمنا من قبل" .(11)
2- الذكاء: ولعله يقصد هنا الجانب الفني في مقابل المضمون "إن الوصول إلى الحق يحتاج إلى قدر من الذكاء قدر ما يحتاج إلى الإخلاص، ومن ثم منح الله أجرين لمن عرفه؟ ومنح أجرًا واحدا لمن أخطأه وهو حريص على بلوغه" .(12)
فنون المواجهة
الهجوم المعاصر على الدين شامل مستوعب ومرسوم بعناية فائقة، ومن ورائه ساسة مهرة، وعلماء نفس ورجال إعلام وأجهزة مالية وإدارية وأفلام من كل نوع، وعيون ساهرة في الصحف. ومن العيب أن يظل الدعاة خارج النطاق والتأثير، بينما الأمة من أفقر أمم الأرض إلى التربية والتعليم ومعرفة الذات!!
إن الغزالي يؤمن أشد الإيمان بأن أخف الواجبات التي يتطلبها الإسلام اليوم هو الوعظ المباشر والإرشاد. إنه ما لم يخطّط الدعاة لسير الدعوة فإن مستقبلها إلى تراجع.
فهو يؤكد أن العرض الإعلامي الحريص على بث الحق وإيثار السلام ورفض الشحناء يستطيع أن يبرز تعاليم الإسلام في صور شتى لعل أيسرها الخبر المجرّد. لكنه يتساءل بعد ذلك: أيكفي ذلك في زمن تبرّجت فيه الدعوات وافتتنت فيه أساليب الاستهواء؟! إن الحوار الذكي في قصة شائقة أو تصوير الواقع في هذه القصة بل الصورة الساخرة أو النكتة البارعة هذه جميعها أصبحت من وسائل البلاغ المبين (وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً).
ونختم بهذه الكلمات عن الدعوة والدعاة يقول في كتابه هموم داعية: "أما علم الدعاة وتكوينهم لما يناط بهم فالكلام فيه مر المذاق؟
نظرت بعيدًا عن دار الإسلام، وراقبت زحام الفلسفات والملل التي تتنافس على امتلاك زمام العالم، فوجدت الإعلاميين أو الدعاة يختارون من أوسع الناس فكرًا وأرقّهم خلقًا وأكثرهم حيلة في ملاقاة الخصوم وتلقّف الشبهات العارضة!!
حتى البوذية وهي دين وثني رُزقت رجالاً على حظ خطير من الإيمان والحركة! لقد طالعت صور الرهبان البوذيين الذين يحرقون أنفسهم في فيتنام ليلفتوا الأنظار إلى ما يصيبهم من اضطهاد، فعرتني رجفة لجلادة الرجال والنساء الذين يفعلون ذلك!
فلما رجعت ببصري إلى ميدان الدعوة في أرض الإسلام غاص قلبي من الكآبة كأنما يُختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام، وتطيح بحاضره ومستقبله..وما أنكر أن هناك رجالاً في معادنهم نفاسة وفي مسالكهم عقل ونبل. بيد أن ندرتهم لا تحلّ أزمة الدعاة التي تشتدّ يومًا بعد يوم..والغريب أن الجهود مبذولة لمطاردة الدعاة الصادقين من العلماء الأصلاء والفقهاء الحكماء!! للقضاء عليهم وترك المجال للبوم والغربان من الأميين والجهلة والسطحيين يتصدون للدعوة ويتحدثون باسم الإسلام(..) ويوجد الآن شباب وشيوخ يعملون في ميدان الدعوة، أبرز ما يمتازون به الجهل بالنسب التي تكون معالم الدين وتضبط شعب الإيمان. وأبرز ما يتسمون به ضعف الخلق والعجز العجيب عن فقه الدنيا!!(13)
قد ترى العابد منهم يضع يديه على صدره وهو قائم للصلاة، ثم يعيد وضعهما بعد الرفع من الركوع ويثير زوبعة على ضرورة ذلك، فإذا كلفته بعمل ترقى به الأمة اختفى من الساحة!(..) فبأي فكر يطلع علينا القرن الجديد وجمهورنا جاهل في فنون الجهاد بارع في الحديث حول تحية المسجد ووضع اليدين في الصلاة؟!
إنه هناك علماء هم في حقيقتهم عوام لا شغل لهم إلاّ هذه الثرثرات والتقعرات، وقد أضاعوا أمتهم وخلّفوا أجيالاً من بعدهم لا هي في دنيا ولا هي في دين!!(14)
ثم سكن القلم
هذه بعض مواضيع تناولها الشيخ الغزالي وخطها قلمه وجال فيها بفكره وروحه، تمثل نزرًا يسيرًا من دعوته وفكره، وهو الذي ظل رافعًا رأسه شاهرًا قلمه. مبلغًا عن الله ورسوله لا تثنيه رغبة ولا تصده رهبة، لا يغريه وعد أو يرهبه وعيد، حتى وافاه الأجل المحتوم حين قام مدافعًا عن العقيدة في أحد المؤتمرات بالرياض، فأصابته أزمة قلبية كان فيها أجله، فمات في غمار الدعوة التي عاش لأجلها. أحسن العيش في سبيل الله، فرُزق الموت في سبيل الله. ودُفن مع شهداء أحد في البقيع بين الإمام مالك والإمام نافع، فرحمة الله عليه ورضوانه.
كان هذا هو العلم الكبير فضيلة الشيخ محمد الغزالى رحمه الله .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]