إن الزواج هو أحد القضايا الهامة و الحساسة و المتشعبة جداً في حياتنا منذ الأزل و حتى العصر الحاضر , حيث تتعدد مواضيع النقاش فيه و تختلف الآراء حوله و تتطور في مسائل و أمور بتنا نسمعها كثيراً في أيامنا هذه مثل :
زواج الشباب من فتيات أكبر منهم سناً , تعدد الزوجات و اختلاف الآراء والمواقف تجاهه فيما يتعلق بزمننا المعاصر , الزواج عن طريق الإنترنت أو مكاتب الزواج المتاحة بمختلف الطرق و الوسائل , و غير ذلك من المواضيع الأخرى .
و لعل إحدى القضايا الواضحة و التي باتت لا تخفى على الكثيرين في عصرنا الراهن هي
قضية تأخر الزواج عند الشباب و الشابات
والتي اختلفت أسبابها من اقتصادية إلى اجتماعية إلى ثقافية أو نفسية عند كلٍ من الأفراد أو المجتمعات , مثل غلاء المهور, أو ارتفاع متطلبات الزواج و توابعه, أو صعوبة الحياة وإعالة الأسرة , أو حتى الخوف من الزواج نفسه عند البعض , أو التهرب من تحمل مسؤوليات جديدة و غير ذلك من الأسباب المتعددة .
و نحن هنا لسنا بصدد مناقشة الأسباب أو إبداء الرأي حول الخيار الأصح ما بين قضيتي تأخر الزواج أو الزواج المبكر , و لكن هدفنا الرئيسي هو التركيز على موضوع واحد و هو ( تحَوُّل مسألة تأخر الزواج إلى سبب من أسباب التشاؤم أو الاكتئاب أو الخجل أو الفشل عند الشباب و الشابات , أو حتى الوصول أخيراً إلى الانحراف نحو طريق الأذى والشر والسوء كارتكاب جرائم بحق النفس أو الغير من انتحار أو اغتصاب أو زنى أو فساد و غيره ) .
و في هذا الإطار نذكر النقاط التالية على أمل إمعان النظر فيها سعياً وراء التخفيف من حدة هذه المشكلة عند الكثيرين بعد فهمها و استيعابها بطريقة و نظرة مختلفة :
1- انطلاقاً من مبدأ أن كل شيء في هذا الكون هو بإرادة الله سبحانه و تعالى و قدرته و قضائه فإن هناك حتماًً حكمة معينة من تأخير زواج أي شخص ما سواء أكان السبب إرادياً منه أ و لا إرادياً وسواء أدركنا الحكمة من ذلك أو لم ندركها أو تأخرنا في الوصول إليها , قال تعالى :
( و لله غيبُ السموات والأرض و إليه يُرجَع الأمر كله )هود (123) .
فقد يكون الله تعالى قد قدَّر لك ذلك لأنك حتى الآن لم تُقابل الشخص الذي يستحقك بالفعل و حين تجده فستُدرك فيما بعد حكمة الله تعالى في زواجك منه دون غيره :
( مثل زواج أكمل النساء سيدتنا خديجة (ر) في سن الأربعين من سيدنا محمد (ص) خير الخلق )
أو لعله قدَّر ذلك حتى تقوم بعملٍ معين ذو قيمة و فائدة في صالحك أو صالح غيرك ما كنت لتستطيع القيام به لو أنك كنت قد تزوجت ( كتحصيل علمي معين أو مركز معين أو عمل إنساني ما ) , قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تُحبوا شياً و هو شرُ لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون )البقرة (216) .
2- إن الزواج الصالح هو نعمة من عند الله سبحانه وتعالى كغيره من النعم المتعددة التي يرزقها لمَن يشاء و كيفما يشاء , فقد يكون تأخيرها هي رحمةً منه بك ليُكفِّر عنك سيئاتك عن أعمال ارتكبتها سابقاً أو لعله يريدك أن تتوقف لتعيد النظر في أمور قمت بها سابقاً و تتوب عنها , قال تعالى :
( و ما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير) الشورى (30)
أو قد يكون التأخير امتحاناً ًمنه لك ليختبر صبرك وإيمانك ويرفع درجاتك ويجزيك الأعظم في النهاية طالما صبرت ورضيت بقضائه وقدره , قال تعالى :
(و لَنجزين الذين صبروا أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون )النحل (96) .
3- إن المسألة هي مسألة قناعة و رضا بقضاء الله و قدره كيفما كان , فيجب على الإنسان أن يرضى و يحمد ربه على كل حال لأن السعادة الحقيقية هي في القناعة ( الكنز الذي لا يفنى ) و ليست في الزواج كما يعتقده البعض بأنه نهاية جميع الأحزان والمشاكل وإلا لما رأينا كثيراً من المتزوجين يتمنون العودة لأيام العزوبية , إضافةً إلى أن تأخر الزواج هو أفضل من زواج فاشل ثم طلاق لا سمح الله , والطلاق قد يكون أفضل من الانتظار حتى يُرزق الإنسان بأولاد , والطلاق مع وجود أولاد يستطيع الشخص إعالتهم أفضل من حالة وجود أولاد مع عدم توفر دخل معين يكفيهم ....و هكذا , قال (ص) :
( لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع )
4- لو تأملنا ما حولنا ورأينا مصائب غيرنا لهانت علينا مصائبنا, لأن الدنيا مليئة بالمشاكل والأمراض العضال والأوبئة والحروب لا تُميّز بين صغيرٍ أو كبير ولا تترك إمرأة ً أو شيخاً . فقد تكون هذه المشكلة هي أبسط بكثير من أعظم غيرها ( مع عدم التقليل طبعاً من أهمية وآثار وضرورة معالجة هذا الموضوع ) .
ثم أنك لست الوحيد في العالم الذي يُعاني من هذا الأمر بل هناك الملايين ممن يعانون منه أيضاً والإحصاءات العالمية تُثبت ذلك . بل قد يكون وضعك أفضل بكثير من غيرك بطريقة أو بأخرى عن طريق مميزات معينة وضعها الله فيك دون سواك .قال تعالى :
( إن مع العسر يُسرا) الشرح(6)
5- إن مرورنا بلحظات ضعف أو حزن في بعض الفترات نتيجة هذا الموضوع هو أمر طبيعي فنحن بشر في النهاية لدينا فيزيولوجية وسيكولوجية معينة , نعيش في ظل مجتمع ونتأثر بضغوط متعددة ومختلفة . ولكن الإنسان المؤمن هو الذي لا يجعل هذا الأمر يتحول إلى عائق يمنعه من التقدم ( فالمؤمن لا ييأس ) والأمل والتفاؤل دائماً موجود بإذنه تعالى بالغد والمستقبل الأفضل , قال سبحانه جلَّ و علا :
( و لا تقنطوا من رحمة الله )الزمر(53) .
فمن رحمته تعالى بنا أن وهب لنا الدعاء الذي يصنع المعجزات مع الإيمان والصبر , قال تعالى :
(فإني قريبٌ أُجيب دعوة الداعي إذا دعانِ , فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة (186) .
كما أن الله تعالى وهب لنا العقل الذي علينا أن نستعمله كما يجب فلا نضع أنفسنا في بيئة تؤذينا كالانغماس في أغاني وأفلام الحب والإغراء بشكلٍ مفرط ليلَ نهار , أو مشاهدة بعض برامج الفضائيات التي تُفسد أذواق الشباب وأخلاقهم وعاداتهم , أو الاقتراب من مواطن و أماكن الفساد كالملاهي و أصدقاء السوء... ثم نجلس بعد ذلك ونندب حظنا .
بل علينا أن نستغل وقتنا المتاح في عمل هادف أو رسالة إنسانية تخدم الخير أو الدين أو المجتمع فهذا هو الإنجاز الحقيقي الذي سيبقى لنا بعد رحيلنا و الذي يجب أن نسعى وراءه سواء كان ذلك مع زواج أو بدونه , قال تعالى :
( المالُ و البنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا و الباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً و خيرٌ أملا )الكهف(46) .
لا تظنوا أو تفهموا خطاً بأننا نُشجِّع على عدم الزواج أو تأخيره بل على العكس تماماً فالزواج ضروري جداً لصيانة نفس ونفسية المسلم ولإكمال نصف دينه ولرفد مجتمعه بالأسرة والأفراد الصالحين الناجحين الفعالين , واستشهاداً بقوله الشريف (ص) :
( يا معشر الشباب مَنِ استطاع منكم الباءةَ فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج , و مَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) .
ولكننا ندعو للتفكير والحكمة وعدم التسرع في الاختيار أو التنفيذ تجنباً للوقوع في متاهات معاصرة سائدة مثل الزواج العرفي ومشاكله وكثرة حالات الطلاق و تشرد الأبناء . و لا تنسوا أننا محاسبون أمام الله تعالى قبل أنفسنا عن اختيارنا للزوج أو الزوجة لأنهما اللذان ُيربيان الأولاد ويبنيان الأسرة وهما شريكي العمر والمسيرة في رحلتي الدنيا و الآخرة .
فأنت تتحكم هنا بمصيرك ومصير غيرك فإن صَلُح الاختيار صَلُح الجميع وإن فسد الاختيار فسد كل ذلك .
نصيحة أخيرة : لا تنسوا استخارة الله تعالى المستمرة في كل أموركم وخاصة في موضوع الزواج وحتى إلى يوم وليلة الزفاف , فكثير من العلاقات قد تفشل في وقتٍ ما أو حتى غير متوقع وذلك لحكمة معينة ولنأخذ عبرة ونكتسب خبرة في الحياة . وأنتم بالاستخارة تُسَلِّمون أموركم لله سبحانه وتسيرون بثبات أكثر وثقة أكبر وبتفاؤل يدعمه الإيمان بمشيئة الله تعالى وقضاؤه وقدره .
نسأل الله تعالى لكم ولنا ولجميع المسلمين الأزواج الصالحين والذرية الطيبة وأن يكونوا عوناً بإذنه تعالى في الدنيا والدين